المكان، الضفة الغربية لقناة السويس، في موقع جنوب البحيرات المرة، وأمامي قناة السويس بعرض 200م، وعلى الضفة الشرقية منها، يرتفع العلم الإسرائيلي فوق الموقع الدفاعي .
كان ذلك في نهاية شهر يونيو 67، وكنت، حينها، قائد سرية المشاة، نحفر الخنادق، أنا وجنودي، على الخط الأول، لإنشاء الدفاعات، لمنع العدو الإسرائيلي من محاولة عبور قناة السويس، والتقدم نحو القاهرة.
وعلى البر الآخر، كان العدو الإسرائيلي يجلب قضبان السكك الحديدية، من خط القنطرة العريش، ويفككها، ليبني أكبر الخطوط الدفاعية في التاريخ المعاصر “خط بارليف”، وهو ما كنا نتصدى له، يومياً، في الاشتباكات بالنيران، المباشرة، لمنعهم من بناء هذا الخط، بما مثل خطورة عليهم،
ومع ذلك لم يتمكنوا من استخدام مدفعيتهم ضدنا، لأن المسافة التي تفرقنا عنهم هي 200م، عرض القناة، بما يهددهم بوقوع طلقاتهم على مواقعهم الدفاعية.
لذلك ابتكرت، قوات العدو، أسلوباً للانتقام، وضرب الخط الأول لنا، إذ استغلوا الليالي القمرية، عند اكتمال القمر بدراً، حيث تلمع صفحة مياه القناة،
ليبدو لهم خندقنا الأول، عبارة عن خط أسود، مظلم، فكانت طائرات العدو الإسرائيلي تقترب، من القناة، ليلاً،
مستفيدة من ضوء القمر، ومستغلة عدم وجود أسلحة مضادة للطائرات على الخط الأول، لتلقي بقنابل النابالم، على الخط الأسود غير اللامع،
وبالطبع كانت طائراتهم تحلق على مستوى منخفض، فتكون إصابة الخندق أكثر دقة.
وبعد أول هجوم، الذي كان مفاجأة لنا، وجدت سريتي وقد اشتعلت بها النيران في كل مكان، حيث يلتصق النابالم بكل الأجزاء، بما فيها الجندي، والمدفع، والذخيرة.
وللاحتماء من هجمات العدو، بينما نجهز دفاعاتنا، فكرنا في تجهيز غطاء، لكل جندي، ليحمي به نفسه، وسلاحه، وذخيرته، على أن ينفضه، بالنابالم العالق به، بعد تلك الهجمات، وهو ما نفذناه،
بالفعل، في الليالي القمرية، فلما كنا نسمع أزيز الطائرات تقترب، ينادي أحد الجنود، “حرس سلاح”، فيقوم الجميع بتغطية أجسادهم، وتغطية الأسلحة والذخيرة،
وبعد انتهاء إلقاء النابالم، يرفع الجميع البطاطين وأغطية الأسلحة، ومن فوقهم النابالم، والحقيقة أن الفكرة نجحت، تماماً، رغم ألم، وبشاعة، المشهد، في أعقاب كل غارة جوية، وأن أرى السرية، كلها، مغطاة بنيران النابالم.
وأذكر في أحد الأيام، بينما أمر على الجنود، بعد الغارة، مباشرة، للاطمئنان عليهم، وعلى سلامة الموقع، والأسلحة، ولرفع روحهم المعنوية، برؤية قائدهم بينهم، وهم يطفئون نيران النابالم، التي مازالت عالقة في الخندق، وتشجيعهم
بكلمات مثل “الله ينور يا وحش … أنت صعيدي جدع”، أذكر أن فاجأني أحد جنودي، سائلاً، “يا فندم هو في حد في مصر حاسس باللي إحنا فيه، ولا إحنا هنا بنحارب لوحدنا؟!” …
باغتني منطق هذا الجندي البسيط، وتذكرت هزيمة يونيو 67، وما تلاها من تم إطفاء الأنوار في مصر، وإغلاق دور السينما والمسارح، كما تذكرت مشاعري، شخصياً، ومشاعر زملائي، على خط الجبهة، نواجه العدو الإسرائيلي، في كل لحظة، عندما عادت الحياة إلى طبيعتها، في باقي أرجاء المحروسة، بأمر من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
وخلال الاسبوع الماضي، بينما تعيش مصر ليالي رمضان، في زمن كورونا، الذي ألزم الناس بالبقاء في منازلهم، على الأقل أثناء ساعات الحظر، اجتمع أبناء الشعب المصري، دون اتفاق مسبق، على متابعة حلقات أعظم مسلسلات العصر الحديث، وهو “الاختيار”،
والذي سمعت في أحد حلقاته، نفس السؤال، الذي ردده عليّ أحد جنودي، منذ ما يزيد عن خمسين عاماً … “هو في حد حاسس باللي فينا يا فندم … ولا إحنا اترمينا هنا واتنسينا؟!”،
فجيشت الجملة مشاعري، وتذكرت سنوات حرب الاستنزاف، مع فارق جوهري، بينها وبين ما نشهده، حالياً، فقد كنا، وقتها، نحارب عدو نعرفه، ونراه، أما الآن، فأبطالنا بالقوات المسلحة المصرية، يحاربون عدو لا يرونه، ولا يعرفون هويته.
والحقيقة أنني أعتبر هذا المسلسل، أعظم ما قدمته الدراما المصرية، منذ عقود طويلة، إذ وضح بعض الحقائق عما يجري في سيناء، وقربها إلى ذهن المواطن البسيط، الذي لم يتصور، من قبل، حجم التضحيات التي يبذلها هؤلاء الأبطال العظام، من رجال الجيش والشرطة، في مكافحة الإرهاب، وتحملهم، وحدهم، لمسئولية صد تهديداته عن باقي أفراد الشعب.
ووصلت رسالة العمل الدرامي، لمختلف فئات الشعب، حتى الأطفال منهم، فقد شاهد أحفادي، معي، أولى حلقات المسلسل، التي صورت حادث رفح الأول، وغدر الإرهاب برجال الصاعقة، وهم صائمون،
فسألني حفيدي، بذعر، “معقول بيعملوا كده؟! دول مش ممكن يكونوا مسلمين”، فأجبته أن الإرهاب لا يعرف ديناً، ولا يعنيه إلا التمويل، ولما قلت له، “استعد لتنضم للجيش كمان كام سنة، وتدافع عن بلدك، وأرضك، وناسك زي الرجالة دي”، لمعت عيناه، وهو يهتف، “طبعاً هدافع ونص”.
أدركت، في هذه اللحظة، أن هذا العمل الدرامي، المتميز، قد حقق الهدف منه، ولمست تأثيره في الشعب المصري، ورفع وعيهم، ونقل الحقيقة لهم.
وشعرت ونحن نلتف حول حلقاته، أن في ذلك إجابة لسؤال الجندي، “هو فيه حد حاسس باللي فينا يا فندم؟” …
نعم مصر تشعر بكم، وترى تضحياتكم، وتقدر شجاعتكم واستبسالكم، فلولاكم ما عشنا في أمان، لنتابع تلك الأحداث المصورة، فأنتم حماة الأرض، والعرض، وبفداء أرواحكم نحيا آمنين …
وعندما تمت مهاجمة دورية بئر العبد، منذ أيام، أظهر عموم الشعب المصري، والعربي، رفضه لها، وموقفهم الشعبي من خستها، من خلال مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، لوعيهم بطبيعة ما يقدمه هؤلاء الأبطال من جهد، وتضحية، لحماية أرض مصر، وشعبها …
فلأجل أن تحيا مصر، عزيزة، شامخة، استشهد الأسطورة “المنسي”، واستشهد، ولازال يستشهد، غيره من أبطال الجيش والشرطة.